
اضطراب الإدمان على الإنترنت: أسبابه وطرق علاجه
جدول المحتويات
في العصر الرقمي الذي نعيشه اليوم، أصبحت التكنولوجيا والإنترنت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. فقد سهلت الشبكة العنكبوتية الوصول إلى المعلومات، وساهمت في تيسير التواصل والتعليم والعمل وحتى الترفيه. ومع هذه الفوائد العظيمة، ظهرت أيضًا تحديات نفسية وسلوكية جديدة، من أبرزها اضطراب الإدمان على الإنترنت.
لا يقتصر استخدام الإنترنت على فئة عمرية معينة، بل يمتد من الأطفال إلى الكبار، ويشمل مجموعة واسعة من الاستخدامات. لكن حين يتحول الاستخدام الطبيعي إلى سلوك قهري يؤثر على جوانب الحياة المختلفة – مثل العلاقات الاجتماعية، الأداء الدراسي أو المهني، والصحة النفسية والجسدية – فإننا نكون بصدد اضطراب نفسي يحتاج إلى فهم وتدخل.
تهدف هذه المقالة إلى تعريف اضطراب الإدمان على الإنترنت بشكل مبسط وعلمي، وتقديم معلومات موثوقة حول أسبابه، أعراضه، أنواعه، طرق تشخيصه، وسبل علاجه والوقاية منه. وهي موجهة لكل من يرغب في فهم هذا الاضطراب بشكل أعمق، سواء كان باحثًا أو مهتمًا أو مختصًا في الصحة النفسية.
مفهوم اضطراب الإدمان على الإنترنت
اضطراب الإدمان على الإنترنت (Internet Addiction Disorder – IAD) هو حالة نفسية تتمثل في الاستخدام القهري والمفرط للإنترنت، لدرجة تؤثر سلبًا على الحياة اليومية للفرد. يُعد من أنواع الإدمان السلوكي، حيث لا يكون هناك مادة مخدّرة يتعاطاها الشخص، وإنما يعتمد على النشاط (التصفح، الألعاب، الشبكات الاجتماعية، إلخ) للحصول على المتعة أو للهروب من الواقع.
أول من صاغ مفهوم “إدمان الإنترنت” هو الطبيب النفسي الأمريكي إيفان غولدبرغ في تسعينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين بدأت الأبحاث تزداد حول الظاهرة. لم يُدرج هذا الاضطراب رسميًا في معظم التصنيفات النفسية (مثل DSM-5)، باستثناء إدمان الألعاب الإلكترونية الذي أدرج ضمن اضطرابات السلوك الإدماني.
يتسم هذا الاضطراب بفقدان السيطرة على استخدام الإنترنت، والشعور بالقلق أو التهيج عند محاولة التوقف، وتفضيل الحياة الافتراضية على الواقعية، إلى جانب الإهمال المتزايد للمسؤوليات الشخصية والاجتماعية والمهنية.
أعراض اضطراب الإدمان على الإنترنت
تتفاوت أعراض اضطراب الإدمان على الإنترنت بحسب الفئة العمرية وطبيعة الاستخدام، لكنها عمومًا تدور حول مجموعة من السلوكيات والمشاعر المتكررة التي تشير إلى الاستخدام المفرط وغير الصحي. في بداية الأمر، قد يبدو استخدام الإنترنت ممتعًا أو وسيلة للهروب من الضغوط، إلا أن الأمور تتفاقم تدريجيًا عندما يصبح المستخدم غير قادر على تقليل الوقت الذي يقضيه أمام الشاشة.
من أبرز الأعراض الشائعة الشعور برغبة ملحة ومتكررة في الاتصال بالإنترنت، حتى دون سبب واضح، مع قضاء ساعات طويلة في التصفح أو اللعب أو التفاعل على مواقع التواصل، لدرجة إهمال النوم، الأكل، أو حتى العلاقات الأسرية. كما يشعر الفرد بالضيق أو القلق عند الانقطاع عن الشبكة، وقد يُظهر سلوكًا دفاعيًا أو غاضبًا إذا طُلب منه تقليل استخدامه.
من ناحية أخرى، يلاحظ على الشخص تراجع في الأداء المدرسي أو المهني، وتجنب الأنشطة الواقعية أو الاجتماعية، فضلًا عن محاولات فاشلة متكررة للحد من الاستخدام. مع الوقت، يتحول الإنترنت إلى الوسيلة الأساسية – وربما الوحيدة – للحصول على المتعة، مما يفاقم من عزلة الفرد وتأثيره النفسي.
أسباب اضطراب الإدمان على الإنترنت
تتعدد الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة باضطراب الإدمان على الإنترنت، وهي تشمل تفاعل عوامل نفسية، بيئية، واجتماعية، نذكر منها:
- الفراغ والملل: غياب الأنشطة البديلة يجعل الإنترنت مصدرًا أساسيًا للتسلية والتمضية.
- الهروب من الواقع: بعض الأفراد يستخدمون الإنترنت كوسيلة للهروب من مشاعر القلق، الاكتئاب، أو مشاكل الحياة.
- ضعف المهارات الاجتماعية: يجد البعض صعوبة في التفاعل الواقعي، فيلجأون إلى العالم الافتراضي.
- سهولة الوصول: توافر الإنترنت في كل مكان وعلى مدار الساعة يُسهل الإفراط في الاستخدام.
- الدعم الاجتماعي عبر الإنترنت: يجد بعض المستخدمين القبول والدعم في المجتمعات الافتراضية.
- التحفيز الدائم: الإنترنت يوفر تدفقًا لا ينقطع من المعلومات والمحفزات البصرية والسمعية التي تؤثر على مراكز المتعة في الدماغ.
- النجاح المؤقت: تحقيق مكاسب أو إنجازات داخل الألعاب أو الشبكات الاجتماعية يُعزز التعلق النفسي.
- العوامل النفسية المصاحبة: مثل اضطرابات القلق، الاكتئاب، اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD).
- البيئة الأسرية أو التعليمية غير المستقرة: قد يهرب الطفل أو المراهق إلى الإنترنت بحثًا عن الاستقرار أو التقدير.
أنواع اضطراب الإدمان على الإنترنت
يمكن تصنيف اضطراب الإدمان على الإنترنت إلى عدة أنواع، حسب طبيعة الاستخدام الذي يُسبب الإدمان، ومن أبرزها:
- إدمان الألعاب الإلكترونية (Online Gaming Addiction):
- الأكثر شيوعًا بين الأطفال والمراهقين.
- يرتبط بألعاب الأونلاين متعددة اللاعبين (MMORPGs) التي تستنزف الوقت والطاقة.
- إدمان مواقع التواصل الاجتماعي:
- يشمل الاستخدام المفرط لمنصات مثل فيسبوك، إنستغرام، تيك توك، تويتر.
- غالبًا ما يرتبط بالشعور بقلة الثقة بالنفس أو المقارنة الاجتماعية السلبية.
- إدمان التصفح غير المنظم:
- الاستخدام العشوائي للإنترنت دون هدف واضح (مثلاً: التنقل المستمر بين الصفحات).
- يؤدي إلى تضييع الوقت وإهمال المهام الأساسية.
- إدمان الشراء الإلكتروني والتسوق عبر الإنترنت:
- الإفراط في التسوق دون حاجة فعلية، وغالبًا ما يصاحبه الشعور بالذنب أو التوتر.
- إدمان المحتوى الجنسي (Cybersex Addiction):
- يشمل الاستخدام المفرط للمواقع الإباحية والدردشة الجنسية.
- له آثار نفسية واجتماعية وجسدية خطيرة.
- إدمان العلاقات الافتراضية:
- التعلق الزائد بعلاقات عبر الإنترنت دون مقابلة الشخص الواقعي.
- قد يؤدي إلى تجنب العلاقات الحقيقية والانفصال عن الواقع.
طرق تشخيص اضطراب الإدمان على الإنترنت
تشخيص اضطراب الإدمان على الإنترنت ليس أمرًا بسيطًا، نظرًا لكون الإنترنت أداة ضرورية في الحياة اليومية. لكن حين يتحول استخدامه إلى سلوك قهري يؤثر سلبًا على أداء الفرد النفسي والاجتماعي، يصبح من الضروري تقييم الحالة.
يتم التشخيص عادة من قبل اختصاصي نفسي أو طبيب نفسي، ويشمل مقابلات سريرية مع المريض وربما مع أفراد عائلته، واستبيانات تقييمية مثل “اختبار إدمان الإنترنت” (Internet Addiction Test – IAT) الذي طوّره د. يونغ.
لا توجد معايير تشخيصية رسمية معتمدة عالميًا لهذا الاضطراب في معظم الدلائل التشخيصية النفسية، باستثناء “اضطراب الألعاب الإلكترونية” الذي أدرج ضمن ICD-11 التابع لمنظمة الصحة العالمية.
يتضمن التقييم النظر في مجموعة من المؤشرات، مثل:
- فقدان السيطرة على استخدام الإنترنت.
- الانشغال الدائم به حتى أثناء أداء أنشطة أخرى.
- استخدام الإنترنت كوسيلة للهروب من القلق أو الاكتئاب.
- ظهور أعراض انسحابية عند الانقطاع، مثل القلق، التوتر، أو الانفعال.
- التأثير السلبي على الحياة اليومية، بما في ذلك العلاقات أو الأداء الدراسي أو المهني.
طرق علاج اضطراب الإدمان على الإنترنت
علاج اضطراب الإدمان على الإنترنت يعتمد على شدة الحالة، وعمر المريض، وطبيعة الاستخدام الإدماني، ومن الطرق الفعالة:
- العلاج السلوكي المعرفي (CBT):
- يساعد الفرد على فهم أفكاره وسلوكياته الإدمانية وتعديلها.
- يعزز مهارات ضبط النفس وتغيير العادات.
- العلاج الأسري:
- يُستخدم خاصةً مع الأطفال والمراهقين.
- يعمل على تحسين التواصل داخل الأسرة ووضع حدود واضحة.
- برامج تعديل السلوك:
- تتضمن جداول زمنية لاستخدام الإنترنت، وتعزيز السلوكيات البديلة.
- تستخدم نظام المكافآت والتعزيز الإيجابي.
- العلاج الجماعي:
- يوفّر دعمًا من أشخاص يعانون من نفس المشكلة.
- يُعزز الشعور بعدم الوحدة ويزيد من دافعية التغيير.
- العلاج الدوائي (في حالات مصاحبة):
- لا يُستخدم لعلاج الإدمان نفسه، لكن يُلجأ إليه لعلاج الاكتئاب أو القلق المرافق.
- يشمل أحيانًا أدوية SSRIs أو مضادات القلق.
- التدريب على المهارات الحياتية:
- يُستخدم لتعليم الفرد كيفية إدارة وقته، وتنمية مهارات اجتماعية ومهنية بديلة.
- إدارة الوقت الرقمية:
- استخدام أدوات وتطبيقات لتقنين الوقت على الإنترنت.
- وضع أوقات محددة للاتصال بالشبكة والانفصال عنها.
طرق الوقاية من اضطراب الإدمان على الإنترنت
الوقاية من اضطراب الإدمان على الإنترنت تبدأ من الوعي بأهمية التوازن في استخدام التكنولوجيا. من الضروري أن يُربى الأطفال والمراهقون على عادات رقمية صحية منذ سن مبكرة، من خلال الإشراف الأبوي، ووضع حدود زمنية واضحة لاستخدام الأجهزة، وتعزيز الأنشطة البديلة كالمطالعة، الرياضة، أو التفاعل الاجتماعي الواقعي.
البيئة الأسرية تلعب دورًا محوريًا، إذ يجب أن تكون نموذجًا يُحتذى في استخدام الإنترنت باعتدال. كما أن المدارس ومؤسسات التعليم قادرة على المساهمة في الوقاية عبر برامج توعية رقمية، وتعليم مهارات استخدام الإنترنت بشكل إيجابي وآمن.
من المهم أيضًا معالجة أي اضطرابات نفسية أو اجتماعية لدى الأطفال والمراهقين في مراحل مبكرة، حيث إن تلك الاضطرابات قد تكون دافعًا للهروب إلى الإنترنت. وبالنسبة للبالغين، فإن التوازن بين العمل والترفيه، والتنظيم الذاتي، والحرص على العلاقات الواقعية، تعد عوامل وقائية قوية.
في الختام
اضطراب الإدمان على الإنترنت هو ظاهرة نفسية متنامية في ظل التحول الرقمي العالمي، وتستحق الاهتمام الجاد من الأفراد والمجتمعات والأنظمة الصحية والتعليمية. ورغم أن الإنترنت أداة لا غنى عنها في عصرنا الحالي، فإن الإفراط في استخدامها بشكل قهري قد يؤدي إلى عواقب نفسية واجتماعية خطيرة.
الفهم الصحيح لهذا الاضطراب، وتحديد أعراضه وأسبابه، يُمكننا من التدخل في الوقت المناسب، سواء عبر العلاج النفسي أو التوعية أو الوقاية. إن بناء وعي رقمي صحي منذ الطفولة، وتعزيز التوازن بين العالم الافتراضي والواقعي، هو الطريق الأمثل لحماية الأفراد من الوقوع في فخ الإدمان الرقمي.
المصادر:
Internet Addiction: A Brief Summary of Research and Practice – PMC
Internet addiction | Better Health Channel
6 Types Of Internet Addiction: Signs, Effects, and Treatment
Prevalence and Impact of Internet Addiction Disorder Among Adolescents and Young Adults
رجاء ضع تقييمك للمحتوى فهو يساعدنا لفهم جودة عملنا