
اضطراب تسكع القمار: مفهومه، طرق تشخيصه وعلاجه
جدول المحتويات
في السنوات الأخيرة، أصبح اضطراب القمار من القضايا النفسية والاجتماعية التي تحظى باهتمام متزايد من قبل الأطباء والمجتمع على حد سواء. فمع تطور التكنولوجيا وسهولة الوصول إلى منصات القمار الرقمية، ارتفعت معدلات الإصابة بهذا الاضطراب، الذي لا يُعتبر مجرد “عادة سيئة”، بل مشكلة نفسية معقدة تؤثر على حياة الفرد وعلاقاته وصحته النفسية والمالية.
اضطراب القمار أو ما يُعرف أحيانًا بـ”تسكع القمار”، يعد من الاضطرابات السلوكية المزمنة التي تدفع الشخص إلى الانخراط القهري في ألعاب الحظ والمراهنات رغم النتائج السلبية المتكررة. ويقع هذا الاضطراب ضمن تصنيفات الأمراض النفسية في الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس (DSM-5) تحت فئة “اضطرابات الإدمان السلوكي”.
تهدف هذه المقالة إلى توضيح مفهوم اضطراب تسكع القمار، وأعراضه، وأسبابه المحتملة، وأنواعه، بالإضافة إلى سبل تشخيصه، وعلاجه، وطرق الوقاية منه، في إطار علمي مبسط وطبي، ليتناسب مع الباحثين أو المهتمين بالصحة النفسية على حد سواء.
مفهوم اضطراب تسكع القمار
اضطراب تسكع القمار (Gambling Disorder) هو حالة نفسية تتميز بفقدان السيطرة على الرغبة في القمار، والانشغال المستمر به، رغم العواقب السلبية التي تلحق بالفرد من الناحية النفسية، الاجتماعية، المالية، والمهنية. ويُطلق عليه أيضًا اسم “القمار القهري”، وهو سلوك غير إرادي يتسم بالتكرار، وعدم القدرة على التوقف حتى مع إدراك الضرر.
يُعد هذا الاضطراب من أنواع الإدمان السلوكي، أي أنه لا يرتبط بتعاطي مواد كيميائية كما هو الحال في الإدمان على المخدرات أو الكحول، بل يرتبط بالإثارة التي يسببها الفعل نفسه، أي القمار، مما يُنتج نمطًا من الاعتماد النفسي والسلوكي.
غالبًا ما يبدأ القمار كلعب ترفيهي بسيط، لكنه قد يتطور تدريجيًا إلى سلوك قهري نتيجة التأثيرات العصبية المرتبطة بالمكافأة في الدماغ. فالشخص المصاب يشعر بالإثارة والمتعة عند القمار، حتى في حالات الخسارة، ما يجعله يكرر السلوك بشكل مفرط، متجاهلًا العواقب المترتبة على ذلك.
أعراض اضطراب تسكع القمار
تشمل أعراض اضطراب تسكع القمار مجموعة من السلوكيات والعلامات النفسية التي تظهر على المصاب بشكل تدريجي، وقد تكون خفية في المراحل المبكرة. يشعر الشخص برغبة ملحة في ممارسة القمار، ويقضي وقتًا طويلًا في التفكير به أو في وضع استراتيجيات للربح، مما يؤثر على تركيزه واهتمامه بأنشطة الحياة الأخرى.
أحد أبرز الأعراض هو فقدان السيطرة على سلوك القمار، حيث لا يستطيع الفرد التوقف أو تقليل مرات اللعب رغم محاولاته المتكررة. كما يبدأ بتعويض خسائره من خلال لعب المزيد على أمل استعادة المال المفقود، وهي حلقة مفرغة تزداد فيها الخسائر والتوتر النفسي.
يعاني الشخص من تقلبات مزاجية مرتبطة بنتائج القمار، مثل الشعور بالابتهاج المؤقت عند الفوز، والاكتئاب أو التوتر بعد الخسارة. كما قد يُخفي سلوكه عن العائلة أو الأصدقاء، ويكذب بشأن الوقت أو المال الذي ينفقه. وقد يصل به الأمر إلى اقتراض المال أو السرقة لتغطية خسائره أو للاستمرار في القمار.
الانعزال الاجتماعي، فقدان الاهتمام بالهوايات، مشاكل في العمل أو الدراسة، وتأزم العلاقات الشخصية، كلها من العلامات الدالة على تطور الحالة. وفي بعض الأحيان، قد يعاني المصاب من أعراض انسحابية نفسية مثل القلق، الأرق، أو الانفعال الزائد عند محاولته التوقف عن القمار.
الأسباب المحتملة لاضطراب تسكع القمار
- عوامل وراثية: وجود تاريخ عائلي للإدمان أو الاضطرابات النفسية يزيد من خطر الإصابة.
- الخلل في نظام المكافأة في الدماغ: يؤدي إلى تعزيز الشعور بالمتعة أثناء القمار، وتحفيز السلوك القهري.
- الضغوط النفسية والاجتماعية: مثل القلق، الاكتئاب، أو الشعور بالوحدة، قد تدفع الشخص للهروب من الواقع عن طريق القمار.
- البيئة المحفزة: كثرة التعرض للإعلانات أو توافر أماكن القمار أو المنصات الرقمية يزيد من فرص الانخراط في السلوك.
- ضعف المهارات في إدارة المال: مما يؤدي إلى البحث عن حلول سريعة للربح أو سداد الديون.
- العوامل السلوكية المتعلمة: مثل التعزيز الإيجابي عند الربح في البداية، ما يُشجع على تكرار التجربة.
- الاندفاعية العالية: وهي سمة شخصية تجعل الفرد يتخذ قرارات سريعة دون التفكير في العواقب.
- اضطرابات نفسية مصاحبة: مثل اضطراب نقص الانتباه مع فرط الحركة (ADHD) أو الاضطرابات المزاجية.
أنواع اضطراب تسكع القمار
- القمار القهري (Compulsive Gambling): وهو النوع الأكثر شدة، حيث يشعر الفرد بدافع قوي لا يمكن السيطرة عليه للقمار.
- القمار العرضي (Binge Gambling): يحدث على فترات متقطعة، قد يظهر بشكل غير منتظم، ولكن بنفس السلوك القهري.
- القمار المُزمن منخفض الكثافة: يُمارسه الفرد بشكل منتظم ولكن دون ظهور الأعراض القوية إلا مع الوقت.
- القمار التحفيزي (Triggered Gambling): يحدث استجابة لمواقف أو مشاعر معينة مثل الاكتئاب أو التوتر.
- القمار الاجتماعي: في بدايته لا يبدو اضطرابًا، لكنه قد يتطور لاحقًا خاصة مع غياب الضوابط الذاتية.
- القمار الرقمي: مرتبط بالمراهنات أو الألعاب الإلكترونية على الإنترنت، وهو الأكثر انتشارًا حديثًا.
طرق تشخيص اضطراب تسكع القمار
يُشخّص اضطراب تسكع القمار بناءً على معايير محددة وردت في الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس (DSM-5)، والتي تتضمن استمرار السلوك القهري على مدى 12 شهرًا، ووجود أربعة أعراض أو أكثر من مجموعة معينة، مثل: الحاجة إلى المراهنة بمبالغ أكبر، محاولات فاشلة للتقليل أو التوقف، الانشغال بالقمار، أو تعريض العلاقات الشخصية والمهنية للخطر.
يقوم الأخصائي النفسي أو الطبيب النفسي بإجراء مقابلة تشخيصية شاملة لتقييم سلوك القمار، ومدى تأثيره على حياة الفرد. وغالبًا ما يُستخدم مقياس القمار القهري، أو استبيانات السلوك الإدماني كأدوات مساعدة.
التشخيص الدقيق يتطلب أيضًا استبعاد الاضطرابات النفسية الأخرى أو الأسباب العضوية التي قد تؤدي إلى سلوك مشابه. ويأخذ المختص بعين الاعتبار العوامل النفسية، والسلوكية، والبيئية، لتحديد شدة الحالة ووضع خطة علاجية مناسبة.
طرق علاج اضطراب تسكع القمار
- العلاج السلوكي المعرفي (CBT): لمساعدة الفرد في التعرف على الأفكار المشوهة المرتبطة بالقمار وتعديلها.
- العلاج الجماعي (مثل Gamblers Anonymous): يوفر بيئة داعمة من أشخاص مروا بتجارب مماثلة.
- العلاج الدوائي: مثل مثبطات امتصاص السيروتونين (SSRIs) أو مضادات الاكتئاب عند وجود اضطرابات مصاحبة.
- العلاج الأسري: يساعد في إصلاح العلاقات وتعزيز الدعم العائلي.
- برامج إعادة التأهيل النفسي: خاصة في الحالات الشديدة أو المتكررة.
- التحكم المالي: مثل وضع قيود على الوصول إلى المال أو إشراف طرف ثالث.
- التثقيف النفسي: من خلال جلسات توعية حول مخاطر القمار وبدائله الصحية.
- استخدام التطبيقات العلاجية: تطبيقات رقمية تساعد في المتابعة اليومية وتحفيز التغيير.
الوقاية من اضطراب تسكع القمار
تبدأ الوقاية من اضطراب تسكع القمار بتعزيز الوعي لدى الأفراد والمجتمعات حول مخاطره وآثاره النفسية والاجتماعية. من المهم أن يحصل الشباب على توعية مبكرة بشأن مخاطر الإدمان السلوكي، خاصة مع سهولة الوصول إلى منصات القمار الإلكترونية. تلعب الأسرة دورًا جوهريًا في المراقبة والتوجيه، وتعليم الأبناء مهارات إدارة المال والضغوط النفسية.
كما تساهم السياسات الحكومية والرقابية في الوقاية من خلال تقييد إعلانات القمار، وتنظيم عمل الكازينوهات والمنصات الرقمية، ووضع أنظمة لحماية المستخدمين. في السياق العلاجي، فإن التدخل المبكر مع الأفراد المعرضين للخطر، وتقديم المشورة النفسية، يمثلان خطوات فعالة لتجنب تطور الاضطراب.
الاهتمام بالصحة النفسية العامة، وتعزيز الارتباط الاجتماعي، وتوفير البدائل الترفيهية الصحية، كلها وسائل تساعد على تقليل احتمالية الوقوع في سلوك القمار القهري.
في الختام
اضطراب تسكع القمار ليس مجرد مشكلة ترفيهية أو نزوة مؤقتة، بل حالة نفسية تحتاج إلى فهم عميق وتدخل علاجي متخصص. فقد يتسبب هذا الاضطراب في تدمير العلاقات، والإضرار بالصحة النفسية، والتسبب في مشاكل مالية خطيرة، إذا تُرك دون علاج. لكن الجانب الإيجابي أن الوعي، والتشخيص المبكر، والتدخل العلاجي الصحيح يمكن أن يُحدث فارقًا كبيرًا في حياة المصابين.
على الأفراد، والعائلات، والمجتمعات أن يتعاملوا مع هذا الاضطراب بجدية، بعيدًا عن الأحكام الأخلاقية أو الوصم، وأن ينظروا إليه باعتباره اضطرابًا سلوكيًا قابلاً للعلاج. ومن خلال الدعم المناسب، يمكن للمصابين باضطراب القمار أن يتعافوا، ويعيدوا بناء حياتهم على أسس أكثر استقرارًا نفسيًا واجتماعيًا.
المصادر:
Compulsive gambling – Symptoms & causes – Mayo Clinic
Gambling Disorder and Other Behavioral Addictions: Recognition and Treatment – PMC
Gambling Disorder: What It Is, Symptoms & Treatment
Psychiatry.org – What is Gambling Disorder?
رجاء ضع تقييمك للمحتوى فهو يساعدنا لفهم جودة عملنا